البيضة ولا الجاجة؟! بقلم الدكتورة ميرفت سرحان



قالت لي: في أحد المرات التي نشب فيها خلاف حاد بيني وبين زوجي .. وكان حول ضيق الأحوال المادية .. وعدم تلبيته لاحتياجاتنا أنا والأولاد .. وعندما بدأ صوتي يرتفع وغضبي يزداد، وحيث أن سيارتي معطلة منذ مدة، وأنا أطالبه بتغييرها، وهو يرفض، ولا يحرك ساكنًا حيال تصليحها .. في هذه الأثناء دق جرس الباب .. وإذا به أخو زوجي .. وبعد أن أخبرنا بأن صوتنا يصل إلى خارج المنزل .. سأل عن سبب الخلاف؟! .. فقلت له أنني على موعد مع مجموعة من صديقاتي، وسيارتي معطلة، وزوجي لا يصلحها، ويرفض أن يعيرني سيارته .. فأصر أخو زوجي أن أستقل سيارته .. وعلل ذلك برغبته البقاء مع أخيه لمناقشة بعض الأمور .. ولأن أخا زوجي ميسور الحال .. فإن سيارته فارهة وحديثة .. فرحت .. وأخذتها .. وانطلقت إلى المطعم .. عند الباب وجدت شباب خدمة الاصطفاف "الڤاليه" يتسابقون لركن السيارة بالقرب من باب المطعم .. وأخذوا يرحبون بيّ بطريقة لطيفة، وينادونني بأجمل عبارات الترحيب "شرفتينا مدام، نور المطعم، ….". ..
في هذه الأثناء تذكرت عندما كنت على موعد مع صديقاتي في ذات المطعم، قبل مدة .. وحضرت بسيارتي المتواضعة .. أذكر جيدًا حينها عندما سمعت الشباب يطلب كل منهم من الآخر أن يأخذ السيارة، كما أذكر أنهم ركنوها بعيدًا، حيث انتظرت لعشر دقائق تقريبًا عند خروجي من المطعم، كي يحضروا السيارة .. ولم أنس عبارات الترحيب الباهتة: "أهلين حجة، تفضلي …." ..
أكملت حديثها معي: أتعرفين ما المدهش في الموضوع؟! .. ثم استرسلت: شباب المطعم هم ذاتهم لم يتغيروا .. وأنا أنا، في كلتا الحالتين لم أتبدل، ولم أتغير: لم يرتفع علمي درجة!، ولم يزد مالي فلسًا!، ولم يكثر عدد أولادي ولدًا! .. ثم هزت رأسها يمينًا ويسارًا، وضحكت بنبرة فيها سخرية قائلة: حتى أجرة الاصطفاف التي دفعتها، لم تزد عن دينار واحد في كلتا الحالتين .. ورسمت على وجهها إبتسامة تحمل في ثناياها الألم ..
أعاد حديث هذه السيدة لذاكرتي حوارًا دار بيني وبين أحد الأطفال .. لم يتردد فيه الطفل لحظة عن إخفاء مشاعره السلبية تجاه والده، لأنه لا يستطيع أن يوفر له بعض الكماليات من أجهزة إلكترونية وألعاب، ولا يمكنه أن يقدم له مصروفًا كبيرًا يتباهى به أمام بقية الأطفال ..
ما ذكرته هذه السيدة، وأكمله الطفل الصغير .. يعكس واقعًا مريرًا نعيشه الآن .. يبدو أننا نعيش في زمان لا قيمة فيه إلا للمال، وكل ما يقترن به من مظاهر تدل على امتلاكه .. ولا تقدير إلا لمن يمتلكه ..
فعلى سبيل المثال: إذا تقدم أحدهم لخطبة فتاة، يُسأل عن مقدار ما يمتلكه من مال .. قبل السؤال عن دينه، وتربيته، وأخلاقه، وسلوكه بين الناس ..
وإذا أردنا اختيار مدرسة لأبنائنا، صرنا نسأل عن الأقساط، قبل السؤال عن المنهاج والمعارف والقيم، فإن كانت أقساط المدرسة غالية فهذا يعني أنها مدرسة جيدة ..
وإذا أردنا شراء أحذية وملابس سألنا عن ثمنها، فإن كان مرتفعًا اشتريناها، حتى لو لم تكن مريحة، أو أنها لا تناسب ذوقنا ..
ولست أنكر أهمية المال، خاصةً في زماننا هذا، حيث كَثُر فيه الغلاء، وكَثُرت فيه المتطلبات .. لكن الحقيقة التي يجب أن لا نغفل عنها: إن أهمية المال لا تتجاوز صاحبه، فهي تؤمن له حياة كريمة، وعلاج أفضل إذا احتاج، وخدمات أحسن في كل المجالات .. حتى عندما يبذله في مساعدة الآخرين فهو يعلم يقينًا أن الفائدة من هذا البذل تعود عليه أولًا ..
أما أن يكون المال سببًا لتقدير صاحبه، فهذه مشكلة .. وأن نتمادى في تعظيم المال لذاته فهذه مصيبة ..
ربما يكون سبب هذه المصيبة، إزدياد الرفاهيات، وتعدد النعم، وانتشار تفاخر أصحابها بها، وحرصهم الدائم على إبرازها أمام الآخرين .. وهذا أدى لأن يُفتن من لا يمتلك هذه الرفاهيات بمظاهرها المبهرة، وتسحره الاكسسوارات البراقة .. فتعطش لاقتناء الماركات .. وهوسته آخر الصيحات .. فلهث خلف جني المال .. وجعله الغاية والمنال .. وإن أخفق في جني المال لسبب أو لآخر، فإنه يبذل كل قواه ليظهر بهيئة من يملكه .. وهذا جعله يقدس المال .. ويمجد صاحبه ..
هذا الحال يشبه إلى حد كبير الدخول في معضلة التساؤل الدارج "مين أول البيضة ولا الجاجة؟" .. فهل عندما لهثنا وراء امتلاك المال وتبعاته، هو ما جعل المال مهمًا لهذا الحد؟! .. أما لأننا اعتبرنا أن للمال الدرجة الأولى، والأهمية المطلقة في حياتنا، فهذا جعلنا نلهث وراءه؟! ..
إن كان الله تبارك تعالى لا يرفع مكانتنا، ولا يرّقي منزلتنا، ولا يعلي قدرنا، ولا يزيد من شأننا؛ لمقدار ما نمتلكه من مال .. وتجرأنا نحن أن نفعل هذا بأنفسنا، فعلينا أن نتحمل خسارة ما جنته أيدينا ..
صدق الله العظيم: ".. إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ الله أَتقَاكُم .." .. (الحجرات: ١٣) ..




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة عمانيات الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق :
تحديث الرمز
أكتب الرمز :