مهزلة على الطريق بقلم الدكتورة ميرفت سرحان



عندما كنا صغارًا، كانت واحدة من أهم أحلامنا أن نتعلم السياقة، ثم أن نمتلك سيارة .. نذهب بها إلى حيث نريد، وفي الوقت الذي نشاء .. ونقل أصدقائنا معنا .. عندها يراودنا ذلك الشعور بالاستقلالية .. والاحساس بالعنفوان .. فأن تسوق يعني أنك قائد: قائد للمركبة، وقائد لمن يركب معك، وقائد للطريق الذي تسلكه .. فتجلس بأريحية على مقعد السائق، وترفع رأسك شامخًا للأعلى، مع ابتسامة فيها شيء من كِبر، دون أن تنظر لمن حولك، وتحاول إمساك مقود السيارة بيد واحدة، وتتكئ بيدك الأخرى على المسند المتوسكط بين المقعدين الأماميين .. ولمَ لا فأنت قائد! ..
وبعد أن تسنح لك الفرصة، وتلتحق بمدرسة تعليم السياقة؛ حينها عليك أن تدرس قواعد المرور؛ فتحفظ الشواخص المرورية، والتحذيرية، وآداب الطريق والتعامل مع الشارع، وحق المشاة .. ثم تخوض امتحان السياقة، الذي إن نجحت فيه، واجتزته من المرة الأولى، فسوف تشعر بفرحة غريبة؛ إذا التقطت لنفسك صورة شخصية عندها؛ سوف ترى كيف انتفخت فتحتي أنفك، وارتفعت إحدى أطراف شفتيك، التي ارتسمت عليهما بسمة من ثقة، ممزوجة بشيء من كبر .. حتى مقلتيك تجدها لا تستقر على مكان ..
وبعد أن تعيش أجواء الفرحة، لما أنجزت .. وتبدأ بخوض التجربة .. وتدخل عالم السياقة ..
سوف تصدم لمشاهد، ما راودتك حتى في كوابيسك .. إليك بعضًا منها:
إذا دخلت الدوار .. فسوف تشعر أن بينك وبين باقي السائقين ثأر قديم، وكأنما لسان حالهم يقول: علي وعلى أعدائي، لن نمر ولن تمر .. فيكسر أحدهم بسيارته على سيارتك ويسابقك لعبور الدوار، وأنت في منتصفه فلا أنت تمر ولا هو يمر ..
أما عن الإشارة الضوئية الحمراء؛ والتي كان أخر علمنا بها، أنها تعني قف، فالدور ليس لك .. يبدو أن الأمر قد اختلف .. فهناك من يسابق حُمرة الإشارة، معتقدًا أنه أسرع من ضوئها، وينافسه من خلفه بالسرعة، وكذلك يفعل من خلفهما، ومن خلفه، وخلفه .. حتى تكتظ السيارات في المسرب، وتغلق الطريق .. فلا تستطيع سيارات المسرب الآخر العبور، ولا تكمل سيارات هذا المسرب المسير ..
كما وأن هناك ظواهر جديدة، ومبهرة للسياقة، إليك بعضها:
التوقف في منتصف الشارع للتحميل والتنزيل .. وليس لك الحق في التذمر، فالأخ يريد أن يفرغ حمولته، من هذا المكان بالذات، حتى لو كان طرف الشارع فارغًا، وحتى لو تعطل من خلفه عن المسير! ..
أما السيدة، والتي بالكاد تتقن السياقة، فعليك أن تنتظر خلفها لبرهة من الوقت حتى يتسنى لها أن تبعث برسالة نصية لصديقتها، تؤكد فيها أو تلغي موعد النزهة .. وإياك أن تتذمر فالموضوع أكثر أهمية مما تتخيل ..
وذلك الذي يسير على سرعة عشرين كيلو متر في الساعة، على المسرب الأيسر للشارع، أرجوك لا توقظه "بزامور سيارتك" فالرجل سارح، يتأمل جمال الطبيعة على جنبي الطريق ..
والذي يمارس هوايته في الفن التشكيلي، ويبدأ برسم "زكزاك" على الشارع متخطيا تلك السيارة الموجودة على يمينه تارة، ومتجاوز تلك التي عن يساره تارةً آخرى .. ابق بعيدًا فالرجل يحتاج مساحة ليتقن فن الرسم ..
والمشاة المشاة .. وحق المشاة .. هذا يسير في منتصف الشارع، وذاك يقطع الشارع واشارة سير السيارات خضراء، وهذا يقطع الشارع وهو يتحدث في هاتفه المحمول، وذاك يحلو له السير في الشارع، والرصيف عريض وفارغ، وغيرها وغيرها ..متغافلًا كل منهم عما قد يتعرض له من ألم ووجع إذا تعرض لدهس أو حادث .. فالمسؤولية دائمًا تقع على السائق ..
أما "الترند" الآن، فظاهرة جديدة جدًا .. طازجة! .. في ورقتها! .. السير بعكس اتجاه الطريق .. غير آبه عن كل المصائب والكوارث التي قد يتسبب بها ..
وأختم بذكر ظاهرة أقل ما يقال فيها أنها ذميمة، و قبيحة .. ظاهرة الشتائم .. حيث تصادف ذلك الرجل -وأحيانًا المرأة- فتراه، يقترب من سيارتك، ويلوح لك بيديه، ويحمر وجهه، وتحتد ملامحه، ويكشر عن أنيابه، ويخرج نصف جسده من شباك السيارة، ويبدأ بإمطار الشتائم عليك، الواحدة تلو الأخرى .. متغافلا عن أنك قد تكون أكبر منه عمرًا، أو أكثر علمًا، أو أنك تُقل أولادك معك، أو قد تكون مريضًا منهكًا، أو، أو، أو .. وعلى فكرة .. أحيانًا كثيرة يكون هو من أخطأ أثناء السياقة، ولست أنت!!! .. لقد شغلتني هذه الظاهرة، وفكرت فيها كثيرًا .. ولا يزال هناك سؤال يحيرني، ولم أجد له إجابة للآن .. من الذي أعطى أي منا الحق في التنمر على الآخرين، أو شتمهم حتى لو كانوا مخطئين؟!! .. كيف توصلنا لقناعة بأننا أفضل من غيرنا؟!! ..
عندما كنا صغارًا، لم نكن نعلم أن السياقة على الطرقات تشبه سلخ الشاة في الملحمة ..
عندما كنا صغارًا، لم نكن نعلم أن ما يحصل في الشوارع، ليس له مسمى سوى أنه مهزلة ..
عندما كنا صغارًا، لم نكن نعلم أن ما يحدث في السياقة على الطرقات، ما هو إلا مثال مصغر لما يحدث في هذه الحياة ..
فاللهم سلم .. اللهم سلم .. اللهم سلم ك..
يقول ربي تبارك وتعالى: "وَالَّذينَ يُؤذُونَ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَات بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَدِ احتَمَلُوا بُهتَنًا وَإثمًا مُّبينًا .." .. "الأحزاب: ٥٨" ..




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة عمانيات الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق :
تحديث الرمز
أكتب الرمز :