خيانة ذاكرة .. بقلم : د. ميرفت سرحان




في الأمس .. وعندما كنت أحتسي كوبًا من الشاي في "كافتيريا المول" القريب من منزلي .. صادفتني إحدى الصبايا التي تعمل هناك .. وهي صبية في العشرين من عمرها، وتعمل لتغطي مصاريف دراستها الجامعية .. اقتربت مني وسلمت عليَّ، وعندما شعرت أنني لم أدرك من هي! .. أخذت تذكرني بنفسها .. وتذكرتها تمامًا .. فأنا أعرفها، وأعرف عائلتها بشكل جيد ..
ثمَّ قلت: هل كانت مدَّة طويلة منذ رأيتك أخر مرّة؟! .. قالت: لا .. ولكنَّني قمت بإجراء بعض العمليات التجميلية البسيطة .. إنَّما ليست لدرجة أنَّها غيَّرت شكلي؛ فلا تتذكريني .. أليس كذلك؟! ..
جاوبت الصبية سرًّا، وقلتُ في نفسي: "لا يا عزيزي، لا شيء يُذكر: شفاه وخدود وحواجب وجُفون ورموش" .. وفي العلن: نظرتُ في عينيها وصمت وابتسمت .. ثمَّ قلت: تعرفين أنَّ ذاكرتي تخونني أحيانًا .. ثم سألتها عن أحوالها وأحوال عائلتها .. وغادرت ..

في السيارة .. قُلت في نفسي: أنا أذكر أنَّ هذه الفتاة كانت وسيمة الوجه وجميلة المظهر .. ثُمَّ تذكرت حوارًا كان قد دار بين مجموعة من السيدات حول عمليات التجميل (أنواعها وأشكالها وأسعارها) .. وكانت خلاصة الحوار أن عمليات التجميل أصبحت أمرًا ضروريًا، وما عاد بالإمكان الاستغناء عنها، حتى لو تم استدانة كلفتها أو تقسيطها .. والأهم من ذلك كله؛ أن هنالك معايير معينة ومقاييس محددة للجمال لابُدَّ من مواكبتها، بل والالتزام بها!! ..

أذكرُ .. أن عمليات التجميل كانت علاجية في أصلها .. فهي قد ابتُكرت لتجميل الإصابات الناتجة عن الحروق والكسور، وغيرها من التشوهات التي يتعرض لها الناس بسبب أو لآخر ..
ثم أصبحت بعض السيدات يلجأن لها؛ لكي يخفين خطوط وتموجات الزمن المرسومة على وجوههن بريشة التقدم في العمر ..
وهاهي وقد مرت بمراحل عديدة .. قد احتلت مكان المناخ وعوامل الطبيعة في تحديد سمات بشرة الشعوب، وأشكال أنوفها، وملامح وجوهها، وهيئة أجسادها ..

إنّما ما لا أذكره أبدًا؛ أن: كيف؟ ولماذا؟ أصبحت سمات وجوهنا، وأشكال أجسادنا هي شغلنا الشاغل! ..
فهل سوف نزداد سعادة كلما كانت شفاهنا أغلظ؟! أم أنَّ حالنا يتحسن إن كان حجم أنوفنا أصغر؟! أم أنَّ حلول ما نواجهه من مشاكل سوف تصبح أوضح إن كانت أجسادنا منحوتة ..
ثُمَّ .. هل هدوء النفس وراحة البال تتأتى كلما كنَّا أجمل؟! .. فتصبح حياتنا أفضل؟! ..

وما لا أذكره أبدًا .. من هو الذي شغل فكرنا بالجمال والأجمل؟! ..
ولكنني أذكر جيدًا أنني لا أجرؤ على الفتوى .. فلست من أصحابها ولا أنا أهل لها .. إنّما .. لا يحضرني في هذا المقام كإجابة لكل الأسئلة السابقة .. إلا قوله تبارك وتعالى؛ على لسان الشيطان:
" .. .. وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ .. .." ..
(النساء: 119) ..




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة عمانيات الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق :
تحديث الرمز
أكتب الرمز :