• الرئيسية
  • تحقيقات

  • ولدت في خيمة واقتلعت من بيتها مرتين: شهادة الحاجة فاطمة من كفر سبت إلى طرعان

ولدت في خيمة واقتلعت من بيتها مرتين: شهادة الحاجة فاطمة من كفر سبت إلى طرعان


عمانيات - بهدوءٍ ممزوج بالحزن، تجلس الحاجة فاطمة محمود عيسى سلايمة (أم محمد) على مقعدٍ خشبي في بيتها ببلدة طرعان، تستعرض صور أبنائها وأحفادها المعلّقة على جدران الصالون، بينما تسرد حكايتها كمهجّرة من قرية كفر سبت. حكاية تبدأ من خيمة وتمرّ بالاقتلاع مرتين، ولا تنتهي إلا بنداء صادق إلى غزة، حيث تعيش نكبة جديدة؛ تقول "نحن الدليل الحي أن من يُقتلع لا يعود… لا تخرجوا".

أم محمد، وهي أم لخمسة أبناء، لم تولد في قريتها كفر سبت، بل في خيمة بكفر كنا عام 1952، بعد أن شُرّدت عائلتها قسرًا على يد القوات الإسرائيلية خلال نكبة 1948. لكنها ورثت الرواية، بكل تفاصيلها وألمها، عن والدتها المرحومة آمنة عيسى. "طفولتي كانت كلها حزنًا ومأساة، وما يحدث اليوم في غزة يفتح جروح الماضي. الاقتلاع الذي يُمارس اليوم يعيدني إلى لحظة طردنا من كفر سبت"، تقول وعيناها تلمعان بالدمع.
تتذكر الحاجة أم محمد الرواية التي حفرتها والدتها في قلبها ووعيها منذ الطفولة. حكايات الرحيل القسري، والخيام الباردة، والبيوت التي هُدمت قبل أن تُسكن، لا تزال حاضرة في تفاصيل الذاكرة، كما لو أنها حدثت بالأمس.

"كفر سبت لم تعد موجودة إلا في القلب وعلى الخريطة"، تقول بأسى. وتضيف: "كان ينبغي أن أروي هذه الحكاية في مسيرة العودة إلى قريتي، لكن الشرطة حالت دون وصولنا، ولو لساعات، إلى المكان الذي يحمل كل الذكريات".

النكبة الأولى: إطلاق نار وحصار وتهجير

تبدأ الرواية من صيف 1948، حين حوصرت كفر سبت جنوب شرق الناصرة من ثلاث جهات، والرصاص يُمطر على رؤوس سكانها. والدتها، الحامل وقتها، كانت تحمل طفلتها الصغيرة، فيما أمسك جدّها صالح حفيدتيه الأخريين، ثريا وزهية. عند الوصول إلى مشارف كفر كما، هاجمت طائرة حربية قافلة المهجرين، ففرّ الجميع نحو عبارات المياه للاختباء. وعندما خرجوا من المخبأ، اكتشفت الأم أن طفلتيها اختفتا، ومعهما الجد.

"كلما روت لي أمي تلك اللحظة، كانت الكلمات تخنقها"، تروي أم محمد. "بقيت أمي تمشي صائمة، حاملة طفلًا في حضنها، تبحث عن بناتها المفقودات من الفجر حتى المغيب. وفي عين كفر كنا، أغمي عليها من شدة التعب. شهران ونصف مرّا قبل أن تسمع أن الطفلتين والجد نُقلوا إلى كفر كما الشركسية، فعادوا بنفس الملابس، دون استحمام أو طعام كافٍ".
وقالت الحاجة فاطمة "عادت اختاي ثريا وزهية بنفس الملابس التي كانت عليهما أثناء التهجير من كفر سبت، شهرين ونصف لا تبديل ملابس ولا حمام، واقتاتوا مع ما كان يجلبه جدي صالح من نساء كفر كما من بقايا الطعام، وناموا في الخلاء".
محطة النزوح: من كفر كنا إلى الناصرة

كان ذلك أيضًا اليوم الذي انهار فيه حلم والد أم محمد، الذي بنى أول بيت باطون في كفر سبت، ولم يسكنه قط. دُمّر البيت، وفُقدت الأرض، وسكنت العائلة خيمة انتقلت بها من كفر كنا إلى الناصرة، في رحلة لجوء لا تنتهي. وتقول "ولدت في خيمة، ولم يكن لي وطن. فقط ذاكرة، وحنين، وخسارة".
عائلة أم محمد لم تعانِ فقط من النكبة الأولى، بل من نكسة أخرى في السبعينيات. بعد سنوات من السكن في الناصرة، بنى والدها بيتًا جديدًا على أرض اشتراها ، لكن الأرض صودرت لصالح شارع التفافي، وهُدم البيت مجددًا. "هل تتخيل أن تُقتلَع من بيتك مرتين؟" تتنهّد قائلة.
لعيش فاشترى أرضًا في موقع سوق الثلاثاء ، بنى بيتًا جديدًا، ولكن في السبعينات صودرت الأرض وشرعت الدولة في شق الشارع الالتفافي في الناصرة، وصودر بيتنا مجددًا وهُدم كليًا، وللمرة الثانية تعيش العائلة ألم التهجير وفقدان البيت والأمان، لم أعش الهجرة الأولى إلا من حديث والدتي آمنة رحمها الله؛ لكننا عشتها هذه المرة، كانت أيامًا حزينة وصعبة".

"تزوجت مهجّرًا... هو وحده من بقي من عائلته"

تزوجت أم محمد من رجل فقد بدوره قريته بالكامل، إذ لجأ أقاربه من الشجرة إلى لبنان وسورية، وبقي وحده في طرعان. وتضيف: "حتى أخوالي لجؤوا، ولم يبقَ منهم سوى خالٍ وحيد، عمره 14 عامًا، بقي مع جدّتين مسنتين فقط، وقد تعهّد ألا يتركهما وحدهما"، كان ذلك الموقف بالنسبة لها درسًا في الوفاء، حفظته بعين دامعة.
وبينما تتنقل بذاكرتها، تحكي بفخر عن جذورها الجزائرية، وتشرح أن اسم خالها "مناد" السعدي يعود إلى أصول العائلة المنفية من الجزائر إبان مقاومة الأمير عبد القادر. "نحن من أحفاد من نُفوا من الجزائر، وجئنا إلى فلسطين نحمل معنا ذاكرة وطنين، وفرّينا من استعمارين".
حتى بعد النكبة، لم تتمكن العائلة من العودة إلى كفر سبت. فقط عام 1966، بعد رفع الحكم العسكري، زاروا أطلال قريتهم. "كنا نظن أن العودة قريبة، كما وعدونا، أيام أو أسابيع. انتظرنا 18 عامًا لنراها فقط، بلا بشر، بلا زيتون، بلا حياة".
في ختام حديثها، تتوقف أم محمد عند غزة، وتخاطب أهلها وكأنها تخاطب ابنةً تعرفها جيدًا: "أنتم الآن في قلب النكبة، كما كنا. لكن لا ترتكبوا خطأنا. لا تخرجوا، لا تثقوا بالوعود، لا تعوّلوا على الرحمة. اصمدوا في بيوتكم. لا شيء أقسى من أن تفقد وطنك مرتين".




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة عمانيات الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق :
تحديث الرمز
أكتب الرمز :