"الرخ" بقلم : سهير جرادات



تربيت في بيت قائد عسكري ، كان يحرص على تعليمنا نحن أولاده وأحفاده أصول لعبة الشَّطْرَنـْج ، كونها لعبة تعلم عمق التفكير والتخطيط الجيد ، إلى جانب الصبر والحكمة ، وطول النفس، والسيطرة على الاعصاب ، وتُخلص متقنها من الخوف والارتباك في التفكير حتى يتمكن من الانتصار على خصومه .
كان والدي – رحمه الله - يحثنا على ممارسة هذا اللعبة كونها لعبة الكبار والساسة والمخططين الاستراتيجيين ، وهي لعبة لا تخضع للمجاملات ولا للعواطف ، وتقوم على اقتناص الفرص ، ومن يقبل اللعبة و شروطها لا يحق له التراجع أو التخاذل ، حتى يظفر بالنصر .
وكان يخبرنا ، بأنها اللعبة المفضلة لدى قادة الجيش العربي الأردني الباسل في أوقات فراغهم ، حيث يمارسونها في نادي الضباط أو في "ميس" الضباط – قاعة يتناول فيها الضباط طعامهم - ، كونها لعبة تنمي قدراتهم على التخطيط والتركيز والتصميم على الفوز في المعارك ، ولتحبيبنا باللعبة كان يحدثنا، ان الملك الباني الراحل الحسين كان ينازلهم في هذه اللعبة ويتحداهم لما لها من مكانة لدى القادة من العسكر ، وانهم جميعهم كانوا يخشون من الوصول إلى مرحلة تهديد وجود حجر ( الملك ) والابتعاد عن لفظ كلمة "كش ملك " ، وكان - رحمه الله- بارع في اللعبة ، وكلما هدد الحجر الأول؛ يلجأ إلى حركة إيمائية والإشارة التحذيرية بالسبابة .
تلفظ لعبة الشَّطْرَنـْج (بفتح الشين أوبكسرها )، وهي عبارة عن حرب إستراتيجية تدور بين اثنين عليهما أن يسخرا فكرهما لخدمة اهدافهما ومصالحهما،على رقعة تتكون من أربعة وستين مربعا ، تخصص لوقوف اثنتين وثلاثين قطعة هي مجموع جيوش الخصمين بهدف انتصار كل طرف على منافسه .
يمتلك كل خصم ست عشرة قطعة، وهي : ملك واحد، و( ملكة، الأميرة أو الوزير) واحدة، وقلعتان أوما تعرف ب ( الرخ ) ، و فيلان، وثمانية ( جنود) ، ولكل قطعة حركة تختلف عن باقي القطع ، وتعد أقوى القطع تلك القطعة التي تعرف بثلاثة أسماء (الملكة، الأميرة أو الوزير)، وأضعف قطع اللعبة هم (الجنود ) ، وتهدف اللعبة إلى حماية الحجر الأساسي في اللعبة ألا وهو " الملك " وحمايته من أي تهديد يتعرض له من الأسر أو القضاء عليه .
وأول وأهم حجر في اللعبة ، هو الملك ، ويمتلك السلطة والنفوذ على (رقعة اللعبة) ، حمايته والحفاظ عليه هو الغاية الأساسية في اللعبة ، فيما الحجر الثاني والمعروف ( بالملكة ، الأميرة أو الوزير)، يتمتع بالحصانة والإمتيازات ، وحرية الحركة في جميع الاتجاهات ، ويسيطر على الأربعة عشر حجرا في اللعبة ، وهو صاحب السلطة في وضع قواعد اللعبة ، والاحقية في التحكم بالأنظمة والقوانين والدساتير التي تحكم اللعبة حتى تنتهي أو تنهار الدولة ، وهو أشبه بالبنك المركزي للدولة .
أما الحصان ، فهو حجر يمثل وزارة الدفاع ، وتمتاز حركته بالقفز من مربع إلى آخر، وعادة ما يترك استخدامه إلى نهايات اللعبة ، فيما يمثل الفيل دستور الدولة ، ويمتلك حرية الحركة في جميع الاتجاهات ، وحركته تكون بصورة "اعوجاج "، ورغم أنه يمتلك التحكم بالجنود ، إلا أن سقوطه في الغالب يكون مبكرا.
فيما المحافظة على الرخ ( القلعة ) أمر ضروري ، والتضحية به لا تكون إلا لحماية ( الملك )، لذا فإن تدخله يكون حاسما وعند الشدائد ، فهو رغم بطء حركته لكن ضربته قوية ، وقوة ( الرخ ) يكتسبها من إمكانية حركته بعدد غير محدود من المربعات أفقيا أو عموديا، وهو يمثل الجهة المسؤولة عن حراسة المواقع الخلفية ، أو البنى التحتية للدولة.
وعند الحديث عن الجنود ، كان قائدي ومعلمي يتوقف كثيرا ، ويؤكد أنهم أهم أحجار اللعبة ، فهم يمثلون الشعب ، ورغم أنهم الأكثر عددا في اللعبة إلا أنهم الأضعف ، وحركتهم محدودة ، ولا يتحركون إلا بأوامر اللاعب الذي يتبعون له ، ولا يسمح له بالحركة إلا باتجاه واحد للامام، ولا يسمح له بالعودة إلى الخلف، ومهمتهم الوحيدة حماية حياة " الملك " والحفاظ عليه، ورغم كل التضحيات التي يقدمونها ، إلا أنهم أول الأحجار التي يتم التضحية بها .
وكان يوصينا كقائد محنك أن لا نستخف أو نستهين بأي جندي ، فهو رغم ضعفه إلا أنه الوحيد القادر على حماية ساحة المعركة ( الرقعة ) ، كون دوره يؤهله أن يحل في العمل محل أي حجر آخر ، حتى ( الملكة أو ما تعرف بالأميرة أو الوزير).
وكان والدي دائما يحذرنا ، بأن علينا التأكد بأن الانتصار في اللعبة لا يعتمد على الذكاء فقط ، وانما يعتمد على عثرات الخصم وأخطائه ، ومقدار قدرة اللاعب على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب ، واستغلال الفرص التي يقدمها لك الخصم عندما يخطئ في اتخاذ القرار، وعلينا أن لا نستخف به ، ولا نستهين به لضعفه أو لعدم خبرته ، لان الحظ قد يخدمه في كثير من المرات ، مما يؤهله للفوزعليك ، والأهم عدم الإفصاح عن مخططاتك وأهدافك ، وأن لا تصاب بالغرور بالفوز المسبق مهما بلغ ضعف خصمك ، لأن العبرة في الخواتيم "والضحك الحقيقي لمن يضحك أخيرا ".
للأسف ، في نهاية اللعبة ، سواء انتهت بالتعادل أو خسارة طرف لصالح الآخر ، يتصافح الملك الخاسر مع منافسه الملك ، أو الغالب مع المغلوب ، اعترافا من المغلوب بقوة الغالب ، إلا أن العداوة والقهر تكون من نصيب ( الجنود ) ، فيما يحصد غنائم الحرب من هم كانوا خلال اللعبة خلف الستارة .
وفي نهاية كل لعبة ، وبعيدا عن مبدأ الربح والخسارة كان والدي وقائدي – رحمه الله - يبتسم تلك الابتسامة الصفراء ، وهو يشير بيده إلى تلك العلبة الخشبية التي تضم جميع الأحجار، ويقول : هذا هو مصير الجميع ، حيث يتساوى بداخلها الملك ،الملكة ، الوزير مع الجندي والرخ والفيل وو .. كما هو الحال في الحياة الواقعية عند الموت، يذهب الجميع إلى القبر ذاته .
Jaradat63@yahoo.com




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة عمانيات الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق :
تحديث الرمز
أكتب الرمز :