اللهم نفسي .. ظاهرة بقلم الدكتورة ميرفت سرحان


اللهم نفسي .. ظاهرة
بقلم الدكتورة ميرفت سرحان

اقتربت الإجازة .. أخذت أم جابر تحضر لرحلة الصيف .. اختارت مع الأولاد إحدى البلدان التي تعتبر وجهة سياحية صيفية .. حضرت الحقائب .. جاء يوم السفر، وبدأ المشوار .. نادت حارس العمارة، ليحمل الحقائب إلى سيارة الأجرة .. ثم قالت: يا أولاد إياكم أن يحمل أحدكم أيًا من الحقائب، إنها ثقيلة ولا أريد أن تؤذوا ظهوركم (مع أن اثنين من أولادها في فترة المراهقة المتأخرة) .. وصلوا المطار .. قالت أم جابر للأولاد: هيا .. احضروا عربة لنقل الحقائب .. كان هناك رجل معه حقيبة واحدة، لها عجلات، أخذ العربة ووضع حقيبته عليها .. طلبت منه أم جابر أن يترك لها العربة، لأن معها حقائب كثيرة .. رد الرجل ببرود: إذن انتظري حتى يُنهي أحد المسافرين اجراءاته وخذي عربته .. توجه المسافرون لختم جوازات السفر .. وإذا بسيدة عجوز بالكاد تسير على قدميها، وتسافر وحدها، تطلب من أحد الأشخاص الذي يسافر برفقة زوجته، أن تأخذ دورهما في ختم الجواز، حتى يتسنى لها أن ترتاح قليلًا قبل الصعود للطائرة، قالت الزوجة: أنت امرأة كبيرة، ومريضة، لم تسافرين وحدك؟! أرجوكِ، النظام نظام، انتظري دورك .. صعد الجميع إلى الطائرة .. أقلعت، وبدأت الرحلة .. باشرت المضيفة في تقديم الطعام للركاب، طلبت منها احدى المسافرات زجاجة ماء، حتى تحضر الحليب لإبنها بعد أن تنتهي من تناول وجبتها .. قالت المضيفة: هذه أخر زجاجة ماء معي الآن، والشاب هنا يريد أن يتناول الدواء قبل أن يبدأ بتناول الطعام، في "اللفة" التالية أحضر لك زجاجة الماء .. لا لا، قالت السيدة، لمَ أنا من عليه الانتظار، إنه شاب فلينتظر هو ..
فجأة .. بدأ قائد الطائرة بالتحدث إلى الركاب عبر مكبر الصوت قائلًا: حضرات المسافرين الكرام أرجو منكم الهدوء والثبات .. ظهرت اشارة في النظام؛ ربما تدل على وجود ثقب في أرضية الطائرة أسفل أحد المقاعد الخلفية .. وإذا بأم جابر تصرخ: يا أولاد .. انظروا جيدًا .. ابحثوا .. فتشوا .. هل الثقب أسفل مقعدنا؟! .. بحث الأولاد، ثم أكدوا لأمهم أن الثقب ليس أسفل مقعدهم، والمدهش أن كافة الركاب قاموا بعمل الشيء نفسه، الذي قامت به أم جابر .. ثم تنفس الجميع الصعداء .. وأخرجوا تنهيدة طويلة، موحدة .. تشبه أداءًا متقنًا لفرقة "كورال" تغني خلف أحد أشهر المطربين .. وحال كل راكب منهم يقول: الحمد لله الثقب ليس هنا!! ..
عاد قائد الطائرة يتحدث من جديد: حضرات المسافرين على متن خطوط طائرة التعايش .. المتجهة إلى بر الطمأنينة .. نذكركم بأن كل من على الطائرة؛ محمل بالهموم، ومثقل بالأحزان، ومملوء بالمشاغل .. وهذا قد يؤدي إلى ثقب أو شرخ في أرضية الطائرة .. واسمحوا لي أن أحيطكم علمًا بأن هذا الشرخ أو حتى الثقب -وبغض النظر عن موقعه- كفيل بأن يسقط الطائرة ومن فيها أرضًا .. وهذا يعني أن الضرر إذا حصل فسيلحق بالجميع .. وفي المقابل فسلامة الطائرة تعني النجاة للجميع ..
وهنا؛ أود أن أنبهكم بأن الطريق مليئ بغيوم الأزمات، ومطبات الابتلاءات، وهزات الحوادث، ورياح الضيق .. لذا .. حافظوا على الهدوء والسكينة بينكم، واربطوا أحزمة التعاطف لبعضكم .. أرجوكم .. الزموا إنسانيتكم ولا تغادروا فطرتكم .. وإن لم يستقر هواء الضغوطات المحيط بالطائرة؛ وارتطمت بحواجز المصائب، وعراقيل الصعوبات .. أرجو أن ترتدوا أقنعة المودة والرأفة .. ثم ساعدوا من بجواركم .. تحذير أخير: لا تسمحوا لأحد منكم أن يفك الحزام، أو أن يخلع القناع؛ وإلا أثار الفوضى وألحق الأذى بالجميع ..
يبدو أن هناك ظاهرة منتشرة بين فئة لا بأس بها من أفراد المجتمع، تتمثل في أن المصلحة الشخصية تعلو فوق كل اعتبار، ومقدمة على منفعة أي شخص .. والواضح أن انتشارها يرجع للإيمان ببعض الأقوال، والأمثال الشائعة بين الناس، من هذه الأمثال: "اللهم نفسي" .. "أنا ومن بعدي الطوفان" .. "إن لم تكن ذئبًا، أكلتك الذئاب" .. وغيرها .. وهي في مجملها تحث الشخص على التحلي بالقوة .. ولكن بمفهوم جديد، ومعنى مختلف للقوة، تتجسد في: الاستقواء على الغير، أو بخسهم حقوقهم، أو سلبهم مزاياهم، أو في التمادي عليهم .. دون الاكتراث لما تعرضوا له من أذى، أو لما لحقهم من ضرر ..
يبدو لي؛ أننا خلطنا بين القوة والقسوة .. فقوة الشخص تكمن في قدرته على مواجهة المشكلات .. وصلابته في تحدي الصعوبات والورطات .. وأن قوته تزداد عندما يتمكن من تقديم المساعدة والدعم للآخرين، فيدرك ظروفهم، ويتفهم مشاعرهم .. فلا يكون فظًا معهم ..
وبما أن القوة بين الناس نسبية .. فمن كان أقوى من فلان، هو أضعف من علان .. ولأننا نعيش على متن نفس الأرض .. أرى أننا إن سمحنا للقسوة أن تنتشر، فسوف تشمل الجميع .. وإن أتحنا للرأفة أن تعم فسوف تغمر الجميع ..
يقول ربي تبارك وتعالى: "وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلَّا رَحمَةً لِلعَالَمِينَ" .. (الأنبياء، ١٠٧) ..
وقال: "قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا" .. (الشمس، ٩، ١٠) ..




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة عمانيات الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق :
تحديث الرمز
أكتب الرمز :