عادي .. كله ماشي بقلم الدكتورة ميرفت سرحان




كنت أجلس مع إحدى السيدات، وكانت تذكر لي كيف يساعدها أبناؤها في ترتيب المنزل، فهي تعتمد على ولديها الذين يكبرون بقية إخوتهم بفارق عمري جيد .. قالت لي أن أحدهم ينظف البيت بكفاءة عالية؛ يمسح الغبار، يكنس الأرضيات، يغسل الصحون، ويتخلص من القمامة .. أما الآخر فهو يفعل كل ما يقوم به شقيقه ولكن؛ عندما يكنس على سبيل المثال: يضع الأوساخ تحت السجادة، ويغسل الصحون بدون سائل "الجلي" .. وهكذا ..
فاستفسرت منها حول ردة فعلها تجاه ما يفعله هذا الولد؟.. ذكرت السيدة؛ أنها في البداية كانت تغضب منه، وتأمره أن ينظف بالطريقة الصحيحة .. وأنها كررت تعليماتها وتهديدها له لأكثر من مرة، ولكن دون جدوى .. فاستسلمت للأمر الواقع ورضيت بطريقته .. وعندما استغربت لاستسلامها؛ قالت: "لا تدقي يا دكتورة، المهم يبين إنه البيت نظيف لو إجا عنا ضيوف .. والله يا دكتورة كله ماشي" ..
ذكرني حديثي مع السيدة .. عندما كنت أراجع إحدى الدوائر الحكومية، ووجدت صديقة قديمة تعمل هناك، فعزمتني على فنجان قهوة، وبعد أن تبادلنا أطراف الحديث، قلت لها: إن الموظفين مستغرقون في الحديث مع بعضهم .. وطابور المرجعين يصل إلى باب الدائرة .. ويبدو أنهم لا يلقون بالا للمنتظرين .. ضحكت مع نبرة استهزاء خفية من حديثي؛ ثم قالت: أتعلمين! هناك مراجعون يقضون ساعات طويلة في هذا الطابور، بينما يمكن أن تنتهي معاملاتهم بنصف ساعة، ومراجعون يُطلب منهم أن يراجعوا دوائر أخرى لإتمام معاملاتهم، وموضوعهم لا يحتاج لذلك، عدا عن بعض المراجعين البسطاء الذين يتحولون لمادة دسمة للسخرية بين الموظفين .. والموظفون الذين يداومون قبل انتهاء فترة الدوام بساعة أو ساعتين، ويغطي زملاؤهم عليهم، كمنفعة متبادلة، كلما احتاج أحدهم لذلك .. ضحكت ثانية، وقالت: وغيرها، وغيرها من المخالفات .. قلت: ومصالح الناس وأعمالهم؟! .. ردت ببساطة: "أي لا تدقي يا دكتورة، مهو المعاملات المضبوطة رح يخلصوها الموظفين حتى لو تأخرت شوي، أو حتى لو فيها شوية أخطاء، شو المشكلة .. مش لازم كل شي يكون مية بالمية .. بالآخر كله ماشي .." ..
ما ذكرته لي هذه الصديقة، يشبه حال تلك السيدة التي استيقظت متعبة ومريضة فتأخرت عن موعد مهم .. وحتى تلتحق به بسرعة .. بدأت تضع على وجهها كافة أصناف وألوان مساحيق التجميل، دون أن تغسله .. وتزينت بعدد من "الاكسسوارات" .. ثم ارتدت أجمل ما لديها من ثياب .. لتبدو جميلة .. وجاهزة للموعد ..
يبدو أن هذه السيدة غفلت عن أن الألوان قد تظهر وجهها أجمل، لكنها لن تزيل بقايا الدهون والرواسب التي تراكمت عليه أثناء نومها .. ولم تدرك بأن أجمل الثياب؛ "والاكسسوارات" قد تخفي معالم التعب والمرض، لكنها بالتأكيد لا تشفي منه ..
أن نتعمد إخفاء القمامة والأوساخ، بحجة أن لا أحد يراها .. فإن هذا لا ينفي حقيقة أنها لا تزال موجودة، وأنها أصبحت بيئة خصبة ومرتعًا للحشرات الضارة .. التي تتغذى عليها ثم تبث سمومها داخل أجسادنا ..
صحيح أنه "بالآخر كله ماشي" .. لكن أن تختار أن تمشي على أرض اسفلتية نظيفة وثابتة، لكنها طويلة لتصل إلى المكان الذي تريد .. يختلف عن أن تختار المشي على أرض موحلة، لأنها أقصر .. صحيح أنك سوف تصل للمكان الذي تريده في كلتا الحالتين .. لكن أن تصل ملطخًا بالأوساخ، حاملًا لشوائب الطريق .. يختلف عن أن تصل نظيفًا، حاملًا رائحة الطيب ..
صدقت الأم .. وصدقت السيدة .. "بالآخر عادي، كله ماشي" .. ولكن؛ هل يبرر أن "كله ماشي" أن لا نخلص فيما نعمل، ونجعل الآخرين يعانون ويتعبون ويتجرعون المر حتى يحصلوا على حقوقهم؟! ..
هل تعني "كله ماشي" أن لا نستهجن الخطأ .. وأن نتفنن تكرار الوقوع في صنوف الأخطاء حتى نعتادها، فتصبح أمرًا مألوفًا صحيحًا؟! ..
هل تعني "كله ماشي"أن الإساءة للغير أمر طبيعي، المهم أن تحدث في سرية تامة؟! ..
هل تعني "كله ماشي" أن نشيع الضمير إلى مثواه الأخير؟! ..
إن كان هذا ما تدل عليه "عادي، كل ماشي" .. فهذا يعني أن لا وجود لخطاب دين يسود .. ولا لنص قانون يحكم .. ولا لمبادئ أعراف تطاع .. ولا ضوابط لتقاليد تتبع ..
ولا بواكي لضمير يُشيَع ..

يقول الله تبارك وتعالى: "أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهدِيهِ مِن بَعدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ" .. "الجاثية: ٢٣" ..

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله يُحبُ إذا عَمِلَ أَحَدُكُم عَمَلًا أن يُتقِنَهُ" ..




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة عمانيات الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق :
تحديث الرمز
أكتب الرمز :