"جاجة حفرت" بقلم الدكتورة ميرفت سرحان



قالت لي: أردت زيارة والدتي .. وحيث أن زوجي خارج البلاد .. أخذت ابنتي الصغيرة، وذهبت بها إلى موقف الباص .. وعندما صعدنا وجدت الباص ممتلئًا، ولا يوجد فيه أي مقعد فارغ .. انتظرت قليلًا، وبدأت أنظر في وجوه الركاب لعلي أرى فيها نظرة شفقة من أحدهم تشير إليّ بأن أجلس في مكانه .. طال انتظاري .. ولم يهتم أحد لأمري .. فتجرأت قليلًا وطلبت من أحد الشباب أن أجلس مكانه .. فقد قلت في نفسي قد يتعاطف معي إن طلبت منه ذلك، خاصةً وأنني حامل، وبطني كبيرة، ومعي ابنتي الصغيرة، وإن لم يتعاطف مع وضعي فعلى الأقل سوف يشعر بالإحراج من طلبي .. ولكنه ردّ غاضبًا: "دبري حالك" .. انتابني شعور غريب بالوحشة والإنكسار حينها .. ثم حدثتني نفسي أن ما حدث قد يجعل الحمية تدب في صدر أحدهم ويجعلني أجلس مكانه .. ولكن ذلك لم يحصل .. وأكملت الطريق واقفة، وابنتي الصغيرة تبكي .. وبعض الركاب يتأفف من صوت بكائها ..
ما حصل مع هذه السيدة يشبه موقفًا شاهدته قبل فترة في مكتب احدى المؤسسات والذي يعمل فيه موظف شاب، وموظفة أربعينية .. دخل المدير وطلب من الموظف أن يقوم بإدخال بعض الكراتين الموجودة في نهاية الممر إلى المكتب .. اعترض الموظف، وطلب من المدير أن تقوم زميلته بإدخال الكراتين هذه المرة، حيث أنه يقوم بتأدية هذه المهمة منذ فترة طويلة .. قال المدير: لا يهمني من يقوم بذلك .. المهم أن أعود بعد ساعة من الآن لأجد جميع الكراتين داخل المكتب .. حاولت الموظفة أن توضح لزميلها وضعها الصحي، وتذكره بعمرها .. ولكن دون جدوى ..
هذين الموقفين لهاتين السيدتين ذكراني بإحدى صديقاتي عندما جاءتني مرة تركض من بعيد .. ميرفت، ميرفت، هل شاهدت نظاراتي؟! .. هل تعرفين أين وضعتها؟! .. منذ ساعتين وأنا أبحث عنها ولم أجدها! .. استغربت من حالها، ومن سؤالها .. فالنظارات موجودة على رأسها ..
حالنا يشبه تمامًا ما حصل مع صديقتي .. نبذل قصارى فكرنا، ونصرف طاقتنا، ونرفع مستوى التوتر لدينا، ونكبد أنفسنا عناء البحث عن شيءٍ لسنا نمتلكه فقط، بل هو في متناول أيدينا ..
أنهكنا عافيتنا ونحن نبحث في سراب حقوق المرأة تارة .. ونلهث خلف وهم حقوق الطفل تارة أخرى .. ونختمها بركضنا وراء هلاوس حقوق الإنسان ..
وقد حصل ذلك؛ عندما اعتقدنا -أو أوهمنا البعض- أن الزمان قد تغير، وحاجات البشر تتبدل، ولم يعد يصلح الآن ما كان يجدي نفعًا في الماضي .. عندها أطلت علينا المدنية الحديثة بمخالبها .. ولأن كل جديد في أوله له بهجة، ولأنها جاءت من بدايتها محكمة، فقد أبهرتنا بعظمة قوتها، وضخامة حجمها .. فامتثلنا لغاياتها، وانسقنا لأهدافها .. ولم ندرك أنها تفترس أفكارنا، وتنهش عواطفنا، وتغرس مخالبها في كل تصرفاتنا .. فهي منذ البداية ما وضعت إلا لتلبي مصلحة من سن أحكامها، وشرع قوانينها ..
غفلنا أننا نمتلك دينًا لم يغادر أي جزء من حياتنا، إلا راعاه، وسن له قوانين تنظم تفاصيله، وتضمن تطبيقه، ونسق علاقتنا مع بعضنا من خلاله .. حتى حقوق الحيوان لم يغفل عنها الإسلام ..
وكلنا نعلم أن كافة الأديان راعت حقوق الإنسان ..
أرى أن الدين أنبت المروءة حليبًا صافيًا في صدور الأمهات .. فعكرنا صفوه بأكذوبة المناداة بالحقوق والمساواة ..
فكنا ممن ينطبق عليهم المثل: "جاجة حفرت عَ رأسها عفرت" .. لذا؛ فلنتحمل كل ما تلقيه تبعات هذه المدنية الحديثة على رؤوسنا من: مشاعر سلبية اتجاه بعضنا، كالكره والغل والحسد .. والإكتئاب من حاضر لا يلبي رغباتنا .. وقلق من مستقبل نجهل ما يحمله لنا .. وسخط واضح على كل شيء يحيط بنا ..

يقول ربي تبارك وتعالى: "أَفَحُكمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبغُونَ وَمَنْ أَحسَنُ مِنَ الله حُكمًا لِّقَومٍ يُوقِنُونَ" .. (المائدة: ٥٠) ..




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة عمانيات الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق :
تحديث الرمز
أكتب الرمز :