غزة .. كما كانت . بقلم : د. ميرفت سرحان




كان دائمًا يلفتني أحد المشاهد، الذي كثيرًا ما يتكرر في المسلسلات العربية .. القديمة منها والحديثة، خاصة المسلسلات الخليجية .. يصور المشهد لحدث وفاة شخص من أقارب أبطال المسلسل (أب، أم .. أو زوج، زوجة .. أو أخ أو حبيب ..) .. يجسد شخوص المسلسل المشهد بكافة تفاصيله، كالتالي: لحظة الصدمة، وهول وقع الخبر على مسمع الأحبة .. ثم صراخ وبكاء وعويل النسوة .. وحرقة قلوبهن .. وربما يفقد أحدهم وعيه .. ويعجز آخر عن الحديث .. ويقع أحدهم أرضًا حتى لا تعود تحمله قدميه .. وقد يصاب بعضهم بالذهول فيتجسد كالتمثال لا كلام ولا حراك .. ورغمًا عنك تعيش معهم المشهد .. وتتعاطف مع الحدث .. وقد تبكي لبكائهم .. وتتابع الحلقة وفي قلبك غصة ..
لكن .. ما كان يشدني فعلًا في هذا المشهد .. أنهم كانوا بعد أن يدفنوا الميت .. يتبعه مباشرة مشهد لأحداث اليوم التالي لما بعد الوفاة .. والمشهد كالتالي: المنظر الأول: ستائر المنزل شفافة، والشبابيك مفتوحة، والشمس ساطعة حتى لو كان التصوير في فصل الشتاء .. المنظر التالي: السيارات تسير في الشوراع، والناس تمشي على الأرصفة، والمحلات التجارية مفتوحة، وحركة البيع والشراء، المدارس، الجامعات، المتنزهات، والمطارات، كل شيء عاد كما كان .. كل شي .. كل شي ..
والمقطع الأول من المنظر الأخير في المشهد:
وجوه المعزين .. بعضهم متألم ومتعاطف .. وبعضهم ما جاء إلا لأداء الواجب .. وبعضهم جاء على حرج .. وربما منهم من جاء شامتًا .. و .. و .. و ..
أما المقطع الأخير في المشهد فيحكي قصة وجوه الأحبة المكلومين على فقيدهم .. لا بد أن حياتهم عادت في سيرتها كما كانت ..
لكن .. هل عاد تفاعلهم مع هذه الحياة، كما كان؟! .. هل عاد نبض قلوبهم للأشياء حولهم، كما كان؟! .. هل امتلأ فراغ الأحبة .. هل لكسرهم أن يجبر .. وهل وهل وهل ..
هكذا حياتنا .. عندما نفقد من نحب أو ما نحب .. وبعد أن نتألم ونتوجع .. تعود الحياة في سيرتها لما كانت عليه في السابق .. لكن قلوبنا لم تعد تتفاعل مع هذه الحياة كما كانت تتفاعل معها في السابق ..
والغريب أن حياتنا قد تتحسن .. وأحوالنا تتبدل .. وقد يصبح عيشنا أفضل فعلًا مما كان عليه في السابق .. وتقلل الأيام من حدة ألم الفقد .. ولكن لا تزال ترافقنا الغصة ..
ما يحدث في غزة مشابه لحدث الفقد في المسلسل .. ولا نزال نحن المشاهدين كما في المسلسل .. نتابع ما أصابهم من فقد وألم .. وما حل بهم من خراب ودمار .. نتعاطف وندعو ونتألم .. وما زالوا هم يعيشون تفاصيل المشهد ..
ترى .. هل تعود غزة كما كانت في السابق؟! .. وهل كانت أفضل حالًا فيكون العود أحمد؟! .. أم أنه على الأقل أفضل مما هي عليه الآن؟! ..
وإن خسرت حربها -لا قدر الله- فأي حال سوف تكون عليه؟! ..
وإن انتصرت -بإذن الله- هل سوف يعود كل شيء كما كان؟! .. لابد أن فرحة النصر سوف تهيمن على الحياة .. لكن!! .. كيف ستزيل هذه الفرحة غصة فقد البيوت والأماكن .. وزوال الحاجيات، وفناء الممتلكات .. وفراق الأقارب ووداع الأحبة ..
هل سوف يعود كل شيءٍ كما كان؟! .. أم أن لا شيء يعود كما كان؟! ..
إلا أن الأمل بالله .. وحسن الظن بما في خزائن الله .. واليقين بتدبير الله للأمور .. كفيل أن يعيد نبض قلب الحياة للعمل أفضل مما كان عليه في السابق ..

يقول ربي تبارك وتعالى:
"وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" .. (البقرة، آية: 155-157) ..




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة عمانيات الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق :
تحديث الرمز
أكتب الرمز :