لحظة بقلم: د. ميرفت سرحان.


سلسلة في أخر الأسبوع خاطرة
لحظة

لحظة لحظة، انظر إليّ وابتسم .. لحظة، قف بجانب الشرفة وامسك الفنجان بكلتا يديك .. وتظاهر بأنك لست منتبه .. لحظة، اختبيء خلف الوسادة .. ارفع صحن الخضار لفوق .. ضع النظارات الشمسية فوق رأسك .. ولحظة ولحظة ..
لحظة، حرك السيارة .. لحظة شغل الإذاعة على الأغنية المعهودة .. لحظة غني بصوت عالٍ .. ولحظة ولحظة ..
لحظة في السفر، مرة في الفندق، وأخرى في الرحلة .. لحظة في السوق، مرة نشتري، وأخرى نتمشى .. لحظة في البيت، مرة نطبخ، وأخرى نتسلى .. ولحظة ولحظة ..
لحظة مع الأهل في زيارة .. ولحظة مع الأصدقاء في نزهة .. ولحظة مع الزملاء في مهمة .. ولحظة ولحظة ..
أنهكتنا اللحظات .. نصورها مرة، ونسجلها أخرى .. ثم نغربلها ونزيل شوائبها في كل مرة، كي تليق بالعرض على مختلف حسابات وحالات وسائل التواصل الاجتماعي ..
أصبحنا نفتعل المواقف واللحظات .. لحظات غير حقيقية وليست صادقة .. لحظات لا تمثلنا ولا حتى تشبهنا .. تغلغلت فينا وانتهكت جميع جوانب حياتنا، وأصغر تفاصيلها من أجل عرضها .. تحولنا إلى ممثلين وصارت حياتنا استديو أو ربما مسرح يعرض قصصًا وحكايات من نسج أوهامنا .. قصص مختلقة، تعدينا فيها على أدق خصوصياتنا حتى نصطنعها .. الخصوصية التي نسعى جميعنا لحمايتها .. فكنا نحن من يخترقها .. فأرهق هذا الاختراق فكرنا .. وأوهن نفسيتنا .. وأقلق راحتنا .. وأعيا مشاعرنا .. ولازمنا التعب .. فنحن الذين ألزمنا أنفسنا بتزوير الحكايا والمواقف والقصص .. واستمرارية العرض ..
والسخرية .. إن المشاهد قد يشعر بالغيرة منا أو قد يحسدنا على ما ليس فينا أو على ما لا نمتلك .. ولفرط السخرية، لا شك أنه يدرك تمامًا بأننا نختلق ما نعرض .. والأدهى والأمر من هذا وذاك أن البعض منا أصبح مصدر رزقه من عرض يومياته ..
لست أنكر .. أن التسجيل أو التصوير قد يوثق للحظات رائعة أو ممتعة .. قد لا تتكرر .. وربما كان تصويرها سيشعرنا بالسعادة كلما نظرنا لهذه الصور، حتى لو مر عليها عمرًا من الزمن، ولكن .. ما قمنا به: هو أننا اصطنعنا لحظة للصورة .. وغفلنا عن أن نصنع صورة للحظة ..
لحظة العيش الحقيقية بكافة تفاصيلها .. لحظة واقعية، ببراءتها أو ربما سذاجتها .. لحظة حتى لو لم نتمكن من توثيقها .. إلا أن مشاعر السعادة المرتبطة بها ستلازمنا كلما مر طيفها في خاطرنا ..
من وجهة نظري .. هناك بعض اللحظات في الحياة لا تتسع لوقت اضافي للتصوير .. بل تحتاج منك أن تحياها بكل حذافيرها .. هذه اللحظات تشبه استلامك لوليد خرج للتو من رحم أمه .. لا يمكن لنظرك أي يلتفت عنه وهلةً أو حتى طرفة عين .. لذا، اقتنصها من عمر الزمن .. وخزن صورتها في ملف الذكريات لديك .. واستدعها كلما شعرت بحاجتك لتلك المشاعر التي امتزجت بها .. ولا تبذل جهدًا إضافيًا بهدف عرضها أو حتى توثيقها .. فتضيع بهجتها وتقل حلاوتها ..
يحضرني هنا .. بيت شعر من رباعيات الخيام:
واغنم من الحاضر لذاته ..
فليس في طبع الليالي الأمان ..
وأختم بقول ربي تبارك وتعالى: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا لَعِبٌ ولَهوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخرٌ بينَكمْ وتَكَاثرٌ في الأَموالِ والأَولادِ " ..




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة عمانيات الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق :
تحديث الرمز
أكتب الرمز :