حيرة بقلم: د.ميرفت سرحان


سلسلة في أخر الأسبوع خاطرة
حيرة

استيقظ من نومه باكرًا .. أخذ حمامًا دافئًا .. صفف شعره بطريقة منمقة .. وارتدى ثيابًا أنيقة .. ثم توجه إلى الخارج .. شغل سيارته وتحرك .. وبعد فترة وجيزة من المسير .. تنبه إلى أنه لا يعرف إلى أين يتجه .. توقف فورًا في مكانه .. واحتار ماذا يفعل؟! .. حاول أن يتذكر لمَ خرج من البيت؟! .. ثم قرر أن يعود إليه .. دخل المنزل ومرَّ على غرفه واحدة تلو الأخرى .. ثم قرر أن يخرج مرة أخرى .. توجه إلى سيارته ثانية .. شغل المحرك وانطلق .. وأعاد الكرّة .. ثم عاد للبيت! .. بقي فترة على هذا الحال ذهابًا وإيابًا .. لا يعرف لمَ خرج من المنزل؟! .. ولا إلى أين يذهب؟! .. وهل كان يتحتم عليه فعلًا الخروج من المنزل .. وهل عليه العودة ثانية؟! ..
توقف على جانب الطريق .. رجَّع مقعده للخلف قليلًا .. مد قدميه إلى الأمام .. أسند ظهره جيدًا على المقعد .. أعاد رأسه إلى الخلف أعلى المقعد .. أخذ نفسًا عميقًا .. ارتسمت إبتسامة حائرة على شفتيه .. ثم أغمض عينيه .. دار شريط الأمس وما حمله من أحداث في ذهنه .. قال بصوت خفي: يا الله لقد كان يومًا حافلًا .. تذكر عندما ذهب إلى عمله في الصباح متأخرًا -حيث سهر مع أصدقائه في الليلة السابقة لوقت متأخر- وأخذ يضحك بصوت مرتفع لما تذكر كيف جعل مديره يتعاطف معه، بعد أن أقنعه أنه تأخر عن العمل بسبب مغص شديد في معدته .. وفي مشهد آخر استرجع كيف جعل زميله في العمل يقوم بالمطلوب منه بعدما جعله يشفق على حاله إذ ادعى أنه يعاني من ألم في عينيه عندما يطيل النظر إلى جهاز الحاسوب .. وبعد خروجه من العمل توجه إلى البقالة، اشترى حاجياته وغادر، وقبل أن يصل إلى البيت اكتشف أن البائع أعاد له مبلغًا زائدًا عن حقه .. عاد من فوره للبائع وأعاد له ماله .. قبيل المغرب طرق جاره بابه، طالبًا منه أن يحرك سيارته عن مدخل بيت الجار، عندها استشاط غضبًا، وبدأ يصرخ في وجهه، ولم يستجب لطلبه .. وفي المساء سمع صراخ مجموعة من الأطفال في الشارع، وضرب كل منهم للآخر، هرع من فوره لفك الاشتباك بينهم، وأخذ يتحدث إليهم عن طريقة حل المشكلات، ثم نبههم إلى أهمية الاحترام المتبادل بينهم ..
بعدما انتهى شريط أحداث الأمس .. فتح عينيه .. أخذ نفسًا عميقًا .. ثم أغمض عينيه مرة اخرى .. توقف عن التفكير لدقائق .. ثم راوده هذا التساؤل: ما كل هذا التناقض؟! في يوم واحد أتصرف مع الآخرين بأسلوب حسنٍ أحيانًا .. وأتفنن باللف والدوران أخرى .. كيف اخترت التصرف المناسب لكل موقف؟ لماذا أكون صادقًا تارة، وأختلق الأكاذيب أخرى .. لماذا أحكم ضميري في مرة، وأتناسى وجوده في مرات عدة؟! .. لماذا لم يكن سلوكي موحدًا في كل مرة؟! سلوكًا ينبع من معايير أخلاقية .. ولكن! هل لدي معايير أخلاقية؟! .. تزاحمت التساؤلات في ذهنه .. لم يجد جوابًا.. فتح عينيه .. أخذ نفسًا عميقًا .. ثم أغمض عينيه مرةً اخرى .. حدث نفسه قائلًا: عندما أرزق أطفالًا وأبدأ بتربيتهم، وأزرع فيهم المبادئ والقيم .. سأغرس فيهم بذور الأخلاق بذرة بذرة، واحدة تلو الأخرى .. سأقول لهم: أن تكون صادقا يتطلب منك أن تتحرى تعميم قول الصدق في كل موقف تتعرض له .. فتقول الصدق حتى لو لم يكن ذكره في مصلحتك .. وأن تقول الصدق حتى لو كان فيه فائدة لشخص لا تحبه .. وأن تقول الصدق حتى لو تأذى منه شخص يخصك .. وأن تتحرى قوله دائمًا حتى لو كان يفسد عليك سرورك .. فالأمر ليس اختيارًا .. إنه خلق إما أن تتمثله وتعممه .. فإن لم تعمم، لن تتعلم ..
ثم اسق بقية بذور الأخلاق الاخرى بنفس الطريقة ..
سأحرص على إخبارهم لماذا عليهم أن يتحلوا بالأخلاق الحميدة، فهي ليست ضربًا من الترف أو الرفاهية .. وسأجتهد في إطلاعهم على الفائدة المرجو منها، فهي تجلب الخير، وتمنع الشر .. وسأبذل جهدًا إضافيًا لتعريفهم بالنتائج المترتبة على الامتثال بها، فهي تقوم سلوكهم، وتشعرهم براحة البال، وتضاعف إحساسهم بالهدوء، وتبث السكينة في الضمير .. ثم سأبوح لهم سرًا: الموضوع ليس سهلًا أبدًا .. فالمواقف الضاغطة متعددة متنوعة .. وكثيرًا من الأشخاص حولهم سيجعلون من الامتثال للأخلاق أمرًا صعبًا جدًا .. سوف أنبههم إلى أن المسألة تحتاج منهم قوة تحمل وثباتًا وصبرًا .. ولكنها تضل في كل الأحوال أفضل من أن يبقوا في حيرة -حيرة تشبه ما يحصل معي الآن- مليئة بالتساؤلات .. ولكن دون اجابات ..
قال سيدي وحبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من شيء أثقل في الميزان من حُسن الخلق".




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة عمانيات الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق :
تحديث الرمز
أكتب الرمز :